فصل: تفسير الآيات (14- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (13):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}
يقول الله تعالى: وإذا قيل للمنافقين: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} أي: كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنَّة والنَّار وغير ذلك، مما أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} يعنون- لعنهم الله- أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره، بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة، وبه يقول الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء!
والسفهاء: جمع سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم والحلماء جمع حليم والسفيه: هو الجاهل الضعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار؛ ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء، في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] قال عامة علماء السلف: هم النساء والصبيان.
وقد تولى الله، سبحانه، جوابهم في هذه المواطن كلها، فقال {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} فأكد وحصر السفاهة فيهم.
{وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى، والبعد عن الهدى.

.تفسير الآيات (14- 15):

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}
يقول الله تعالى: وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: {آمَنَّا} أي: أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة، غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم، {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم. فضمن {خَلَوْا} معنى انصرفوا؛ لتعديته بإلى، ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به. ومنهم من قال: إلى هنا بمعنى مع، والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير.
وقال السدي عن أبي مالك: {خَلَوْا} يعني: مضوا، و{شَيَاطِينِهِمْ} يعني: سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين.
قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة عن ابن مسعود، عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} يعني: هم رؤوسهم من الكفر.
وقال الضحاك عن ابن عباس: وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول.
وقال مجاهد: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين.
وقال قتادة: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} قال: إلى رؤوسهم، وقادتهم في الشرك، والشر.
وبنحو ذلك فسَّره أبو مالك، وأبو العالية والسدي، والرّبيع بن أنس.
قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مَرَدَتُه، وتكون الشياطين من الإنس والجن، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].
وفي المسند عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن». فقلت: يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال: «نعم».
وقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أي إنا على مثل ما أنتم عليه {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قال الرّبيع بن أنس، وقتادة.
وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
وقال ابن جرير: أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة، في قوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الآية [الحديد: 13]، وقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178]. قال: فهذا وما أشبهه، من استهزاء الله، تعالى ذكره، وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين، وأهل الشرك به عند قائل هذا القول، ومتأول هذا التأويل.
قال: وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر به.
قال: وقال آخرون: هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك. ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، قالوا: وكذلك قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] و{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى: أن المكر والهُزْء حَاق بهم.
وقال آخرون: قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وقوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقوله {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] و{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وما أشبه ذلك، إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم جَزَاءَ الاستهزاء، ويعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]، فالأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما.
قال: وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك.
قال: وقال آخرون: إن معنى ذلك: أنّ الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوا إلى مَرَدَتِهم قالوا: إنا معكم على دينكم، في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما يظهر لهم- من قولنا لهم: صدقنا بمحمد، عليه السلام، وما جاء به مستهزئون؛ فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا، يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة، يعني من العذاب والنكال.
ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله، عز وجل، بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك.
قال: وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} قال: يسخر بهم للنقمة منهم.
وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال السدي: عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة قالوا يَمدهم: يملي لهم.
وقال مجاهد: يزيدهم.
قال ابن جرير: والصواب يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عُتُوّهم وتَمَرّدهم، كما قال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110].
والطغيان: هو المجاوزة في الشيء. كما قال: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]، وقال الضحاك، عن ابن عباس: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في كفرهم يترددون.
وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة، وبه يقول أبو العالية، وقتادة، والرّبيع بن أنس، ومجاهد، وأبو مالك، وعبد الرحمن بن زيد: في كفرهم وضلالتهم.
قال ابن جرير: والعَمَه: الضلال، يقال: عمه فلان يَعْمَه عَمَهًا وعُمُوهًا: إذا ضل.
قال: وقوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في ضلالهم وكفرهم الذي غمرهم دَنَسُه، وعَلاهم رجْسه، يترددون حيارى ضُلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا؛ لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رُشْدًا، ولا يهتدون سبيلا.
وقال بعضهم: العمى في العين، والعمه في القلب، وقد يستعمل العمى في القلب- أيضا-: قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ويقال: عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه، وجمعه عمّه، وذهبت إبله العمهاء: إذا لم يدر أين ذهبت.

.تفسير الآية رقم (16):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} قال: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أي: الكفر بالإيمان.
وقال مجاهد: آمنوا ثمّ كفروا.
وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى أي: الكفر بالإيمان. وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
وحاصل قول المفسرين فيما تقدم: أن المنافقين عَدَلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أي بذلوا الهدى ثمنا للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر، كما قال تعالى فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون: 3]، أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى، كما يكون حال فريق آخر منهم، فإنهم أنواع وأقسام؛ ولهذا قال تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي: ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي: راشدين في صنيعهم ذلك.
قال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} قد- والله- رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة، بمثله سواء.

.تفسير الآيات (17- 18):

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)}
يقال: مثل ومثل ومثيل- أيضا- والجمع أمثال، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
وتقدير هذا المثل: أن الله سبحانه، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد. وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال: والتشبيه هاهنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8].
والصواب: أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير، رحمه الله، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]؛ فلهذا وجه ابن جرير هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة.
قال: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19] أي: كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا.
وقال بعضهم: المستوقد واحد لجماعة معه.
وقال آخرون: الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم خالد

قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع، في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام، وقوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي: ذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق، {لا يُبْصِرُونَ} لا يهتدون إلى سبل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك {صُمٌّ} لا يسمعون خيرا {بُكْمٌ} لا يتكلمون بما ينفعهم {عُمْيٌ} في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.
ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه:
قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} زعم أن ناسًا دخلوا في الإسلام مَقْدَم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة، فأوقد نارًا، فأضاءت ما حوله من قذى، أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، وعرف الخير والشر، فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر.
وقال مجاهد: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين، والهدى.
وقال عطاء الخرساني في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} قال: هذا مثل المنافق، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا، ثم يدركه عمى القلب.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة، والحسن والسدي، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وقال العوفي، عن ابن عباس، في هذه الآية، قال: أما النور: فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به، وأمَّا الظلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدى، ثمّ نزع منهم، فعتوا بعد ذلك.
وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العِزّ، كما سُلِب صاحب النار ضَوءه.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص، بلا إله إلا الله، أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة.
وقال الضحاك في قوله {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} فهي لا إله إلا الله؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وقال سعيد، عن قتادة في هذه الآية: إن المعنى: أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له الدنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت، سلبها المنافق؛ لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله.
{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} يقول: في عذاب إذا ماتوا.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} أي يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم الله في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق.
وقال السدي في تفسيره بسنده: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} فكانت الظلمة نفاقهم.
وقال الحسن البصري: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قول: لا إله إلا الله.
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} قال السدي بسنده: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} فهم خرس عمي.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وكذا قال أبو العالية، وقتادة بن دعامة.
{فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} قال ابن عباس: أي لا يرجعون إلى هدى، وكذلك قال الرّبيع بن أنس.
وقال السدي بسنده: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} إلى الإسلام.
وقال قتادة: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يتوبون ولا هم يذكرون.